الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
المفتي موقِّع عن الله عز وجل، ومبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الواسطة بين الرب والخلق، فعليه أن يعرف قدره، ويتقي ربه.
ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب، ويتحرى في فتواه، ويدقق في السؤال، ويتأنى في الجواب.
وأن لا يخطئ قول "أدري"، وأن لا يستنكف ويستكبر عن ذلك، وليكن له في رسوله، وملائكة ربه، والسلف الصالح، والخلف الفالح الأسوة الحسنة والقدوة الفاضلة، فالخير كل الخير في اقتفاء آثارهم والتخلق بأخلاقهم.
قال ابن المنكدر رحمه الله: إن العالم بين الله وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم.
وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: من أراد أن ينظر إلى محاسن الأنبياء فلينظر إلى محاسن العلماء، فيجيء الرجل فيقول: يا فلان، إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا، فيقول: طلقت امرأته؛ ويجيء آخر فيقول: حلفت بكذا وكذا، فيقول له: ليس يحنث بهذا القول؛ وليس هذا إلا لنبي أوعالم، فاعرفوا لهم ذلك.
وبعد..
فإليك أيها المفتي، والقاضي، والعالم، وطالب العلم، يا من ابتلاهم الله بالفتوى، وامتحنهم بالقضاء، واختبرهم بالعلم، إليكم جميعًا هذه النصائح الغالية، والنماذج الفريدة، والخصال الحميدة، التي ينبغي لكل منكم أن يتحلى بها.
وأن يكون أهلًا لها، لحاجتكم إليها أكثر من حاجة من سبقكم، وذلك لقلة المعين، ولضعف وازع الدين، لتعرف إذا كان هذا حالهم وتلك خصالهم في التحري، والتدقيق، والتثبت، والتأكيد في الفتوى وهم أهلها وأحق بها، أين أنت من ذلك؟ وأين موقعك مما هنالك؟ فإن لم تكن مثلهم فتشبه بهم، فإن التشبه بالرجال فلاح ونجاح.
نماذج لتورع السلف الصالح وتثبتهم عن الفتيا 1
1. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون".
وعن ابن عباس رضي الله عنه نحوه.
2. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من كبار التابعين ومن أئمة الدين: "أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار2 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم المسألة فيردها إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول منهم، ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
3. وقال حصن الأسدي: "إن أحدكم ليفتي في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر3".
4. وقال مالك رحمه الله: "سمعت محمد بن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم "لا أدري"4 أصيبت مقاتله".
وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
5. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك، لا أعرف غيرك؛ فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله لا أحسنه؛ فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها5.
فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم؛ فقال القاسم: والله لئن يقطع لساني أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا أعلم.
6. روي من غير وجه6 عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "أي سماء تظلني، وأي أرضٍ تقلني، إذا قلتُ في كتاب الله بغير علم".
7. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يا أيها الناس! من سُئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم الله أعلم، إن الله قال لنبيه: "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ"7).8
8. عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن شيء فقال: "لا أدري"، فلما ولى الرجل قال: نعمَّا قال عبد الله بن عمر، سئل عما لا يعلم، فقال: لا علم لي به".9
9. وسئل الشعبي عن مسألة فقال: "هي زباء هلباء وبر لا أحسنها، ولو ألقيت على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعضلت به، وإنما نحن في الغوق ولسنا في النوق"، فقال له أصحابه: لقد استحيينا منك مما رأينا منك، فقال: لكن الملائكة المقربين لم تستح حين قالت: "لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا"10.
10. وقال مجاهد: "سئل ابن عمر عن فريضة من الصلب، فقال: لا أدري؛ فقيل له: فما منعك أن تجيبه؟ فقال: سئل ابن عمر عما لا يدري، فقال: لا أدري".
11. وعن أيوب قال: تكاثروا على القاسم بن محمد يومًا بمنى، فجعلوا يسألونه، فيقول: لا أدري، ثم قال: "إنا والله لا نعلم كل ما تسألون عنه، ولو علمنا ما كتمناكم، ولا حلَّ لنا أن نكتمكم".11
12. سئل سعيد بن جبير عن شيء فقال: لا أعلم، ثم قال: "ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني عالم".12
13. وذكر الشعبي عن علي رضي الله أنه خرج عليهم وهو يقول: "ما أبردها على الكبد، ما أبردها على الكبد"، فقيل له: وما ذاك؟ قال: "أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم".13
14. وقال القاسم بن محمد: "يا أهل العراق، إنا والله لا نعلم كثيرًا مما تسألونا عنه، ولئن يعيش المرء جاهلًا إلا أنه يعلم ما افترض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم".14
15. وقال ابن وهب: وسمعت مالكًا يحدث عن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: "إني لأحب أن يكون من بقايا العالم بعده لا أدري، ليأخذ به من بعده".15
16. وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: "سأل عبد الله بن نافع أيوبَ السختياني عن شيء فلم يجبه، فقال له: لا أراك فهمت ما سألتك عنه؟ قال: بلى، قال: فلمَ لا تجيبني؟ قال: لا أعلمه".16
17. وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله!
جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، فسأل الرجل عن مسألة، قال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل، كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، قال: فقال: فأي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعتُ إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن".17
18. وقال ابن وهب في "كتاب المجالس": سمعت مالكًا يقول: "ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: لا أدري، فإنه عسى أن يهيأ له خير".18
19. وقال ابن وهب: "وكنت أسمعه كثيرًا يقول: لا أدري"؛ وقال: "لو كتبنا عن مالك لا أدري، لملأنا الألواح".
20. وقال عقبة بن مسلم: "صحبتُ ابن عمر أربعة وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما يسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ فيقول: تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا لهم إلى جهنم".19
21. وقال ابن عيينة: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا".
22. وقال أبو داود: "قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم، نصف العلم".
23. وكان مالك رحمه الله يقول: "من أجاب في مسألة، فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة أوالنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة".
24. وسئل مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قوله جل ثناؤه: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا"20.
فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة.
25. وقال مالك: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة، فكيف بنا نحن الذين غطت الخطايا والذنوب قلوبنا؟!"، بل كيف بنا نحن؟!
26. وسئل الشافعي رحمه الله عن مسألة فسكت، فقيل له: ألا تجيب يرحمك الله؟ فقال: "حتى أدري الفضل في سكوتي أوفي الجواب".
27. وكان سعيد بن المسيب رحمه الله لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئًا إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني".
28. وقال سُحنون: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، فقال: تفكرت فيه وجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الرجل فيستمتع بامرأته ورقيقته وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا".
29. وجاء رجل إلى سُحنون يسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله، اليوم ثلاثة أيام؛ فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك؛ فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؛ فقال سُحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار.
وما أكثر ما لا أعرف، إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضي تجاب في مسألتك في ساعة؛ فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك؛ قال: فاصبر؛ ثم أجابه بعد ذلك.
وقيل له21: إنك تُسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها، فتتوقف فيها، فقال: "إن فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال".
30. وقال بشر الحافي: "من أحب أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأل".
31. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك قال: "أخبرني رجل دخل على ربيعة22 فوجده يبكي؟ فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم".
32. وقال ربيعة: "ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السراق".
قلت: هذا المسلك الحميد، والتثبت الكثير، استمده السلف الصالح من رسول الهدى، وإمام المتقين المعصوم من الزلل، المؤيد بالوحي، مع ذلك كان كثيرًا ما يقول لا أدري، وكذلك كان يقول أمين الوحي جبريل.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي البقاع خير؟ قال: "لا أدري"، فقال: سل ربك، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: "يا جبريل، أي البقاع خير؟"، فقال: "لا أدري"، فقال: "سل ربك"، فانتفض جبريل انتفاضة كاد يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أسأله عن شيء".
فقال الله عز وجل لجبريل: "سألك محمد أي البقاع خير؟ فقلتَ: لا أدري، وسألك أي البقاع شر؟ فقلتَ: لا أدري؟ فأخبره أن أحب البقاع المساجد، وأن شر البقاع الأسواق".23
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أعُزَيْر نبي أم لا؟ وما أدري أتبع ملعون أم لا؟".24
وقال: "ما أدري أتبع لعن أم لا، وما أدري ذو القرنين نبي أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟".25
أقول: ما بال كثير من أهل زماننا يتجاسرون على الفتيا ولا يخشون مغبتها، ولا يتورعون كما تورع أسلافهم، فيبيعون آخرتهم بدنياهم، وفي كثير من الأحيان يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم من الحكام والعامة؟!
الأسباب التي تدفع البعض إلى هذا السلوك المشين، والخلق المعوج اللئيم كثيرة
ولكن أخطرها ما يأتي:
أولًا: الجهل بخطورة الفتوى وما يترتب عليها، وما تثبت السلف عنها إلا لعلمهم بخطورتها.
ثانيًا: خطب ود الحكام.
ثالثًا: محاولة التلفيق بين الإسلام وإفرازات الحضارة الغربية المادية الكافرة.
رابعًا: خطب ود العامة، فمنافقة المجتمع والعامة أخطر من منافقة الحكام.
خامسًا: اعتقاد البعض جواز التشهي في الفتوى، فيتخير من أقوال أهل العلم أيسرها لمن يهواه من المستفتين.
سادسًا: حب التميز على الآخرين بدعوى التخفيف والتسهيل.
سابعًا: الحرص على تتبع زلات وسقطات بعض أهل العلم بدعوى أنها داخلة في الرخص الشرعية.
ثامنًا: توهُّم الضرورة، إذ الضرورة التي تبيح أكل الربا مثلًا إن لم يأكله هلك.
تاسعًا: الاستحياء من قول لا أدري.
عاشرًا: إيثار السلامة.
أخطر المسائل التي يجب التحرز من الفتيا فيها
1. دعوى تقارب الأديان وتوحيدها.
2. الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار.
3. الدعوة لتقارب السنة مع الرافضة مع بقائهم وإصرارهم على عقائدهم الكفرية.
4. تحسين بعض البدع بالعقل والهوى.
5. التكفير، والتبديع، والتفسيق.
6. استحلال الفروج والأبضاع.
7. ما يدخل البطون من المآكل والمشارب، وكذلك الملابس: "فكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، كما صح بذلك الخبر.
8. الدماء.
9. الطلاق.
10. التحليل والتحريم، ومن أخطر ما ألف في هذا العصر كتاب "الحلال والحرام" للدكتور يوسف القرضاوي سامحه الله، حيث أحل فيه كثيرًا مما حرم الله، نحو التصوير، والتمثيل، والغناء، والموسيقى، والسينما، وغيرها، وصدق من سماه بـ"الحلال والحلال".
عليك أخي القارئ أن تقارن بين ورع السلف الصالح عن الفتيا وتجاسر الخلف عليها، وليت الأمر اقتصر على المنتسبين إلى العلم الشرعي، بل تعداه إلى تطفل بعض الوراقين والصحفيين من الشيوعيين والمنافقين، حيث أصبحوا يحللون، ويحرمون.
وينكرون من الدين ما لا تهواه أنفسهم، حيث أباحوا الردة وأنكروا حدها، وشككوا في الكثير من المسلمات، بل وصلت بهم الجرأة إلى التطاول على ثلة من العلماء.
وتحريض الكفار عليها، وتخويفهم من خطرها، بما يخيله إليهم باطنهم المريض، وعقلهم الباطن الحاقد.
وما تطفح به الصحف من هجوم شرس، وتحامل بغيض، على الفتوى الموفقة التي أصدرتها الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة من عدم جواز الانتساب إلى حركة التحرير ليس ببعيد عنا، فحسبنا الله عليهم، وهو كافينا شرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعند الله تلتقي الخصوم، وينصر المظلوم.
فالله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المفتين الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يسلمنا ويسلم منا.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المفتين، وإمام المتقين، محمد بن عبد الله صادق الوعد المبين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
الكاتب: يحيى بن موسى الزهراني
المصدر: موقع الدين النصيحة